مرصد بيئي يحذر: نحتاج أمطار ثلاثة أشهر متواصلة لإنقاذ العراق من أزمة مائية تاريخية

مرصد بيئي يحذر: نحتاج أمطار ثلاثة أشهر متواصلة لإنقاذ العراق من أزمة مائية تاريخية
أزمة الجفاف في العراق

حذر مرصد "العراق الأخضر" البيئي من أن البلاد تواجه واحدة من أخطر الأزمات المائية في تاريخها الحديث، مشيراً إلى أن العراق يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أشهر من الأمطار الغزيرة والمتواصلة لرفع مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات والنواظم والسدود التي أوشكت على الجفاف الكامل.

ويأتي التحذير في وقت تشير فيه تقارير حكومية إلى أن العراق يعيش أسوأ أزمة مائية منذ تسعين عاماً، وسط تراجع خطير في معدلات الهطول المطري وتقلص كبير في واردات المياه من دول المنبع، وعلى رأسها تركيا وإيران.

جفاف غير مسبوق يضرب البلاد

ذكر المرصد في بيان رسمي صدر السبت أن الحكومة العراقية الحالية "تناست تماماً ملف المياه" وانشغلت بالصراعات السياسية والاقتصادية على حساب واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في البلاد، ما أدى إلى تفاقم الأزمة واتساع رقعتها الجغرافية.

وأوضح البيان أن الجفاف لم يعد مقتصراً على المحافظات الجنوبية، بل بدأ يمتد إلى المناطق الغربية وشمال بغداد، ما يهدد الزراعة والأمن الغذائي ومصادر الشرب على حد سواء.

ويقول مراقبون إن التغيرات المناخية المتسارعة خلال السنوات الأخيرة، إلى جانب سوء إدارة الموارد المائية داخلياً، أدت إلى انخفاض كبير في منسوب المياه في دجلة والفرات، وقد باتت بعض القرى في الجنوب تعتمد على الصهاريج ومياه الآبار المالحة، في حين هجرت مئات العائلات أراضيها الزراعية بسبب تصحر التربة وملوحة المياه.

انخفاض مقلق في الخزين المائي

أشار مرصد "العراق الأخضر" إلى أن العراق يواجه أزمة حقيقية في إدارة خزينه المائي، مؤكداً أن المخزون قد ينخفض خلال الأشهر المقبلة إلى أقل من أربعة في المئة من طاقته الطبيعية في حال تأخر سقوط الأمطار في بغداد والمحافظات.

وبيّن أن الأمطار التي تسقط بصورة متفرقة وغير منتظمة لا يمكن أن تحل المشكلة، إذ إن العراق يحتاج إلى فترة هطول تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر بمعدلات عالية لتأمين احتياجاته الصيفية والزراعية.

ويحذر الخبراء من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى توقف الزراعة بشكل شبه كامل في مناطق الوسط والجنوب، إضافة إلى تهديد محطات توليد الطاقة الكهرومائية في السدود الكبرى مثل الموصل وحديثة وسامراء.

تحذيرات من إجراءات تركية 

حذر المرصد من أن العراق قد يتعرض لما وصفه بـ"خديعة ثانية" من قبل تركيا، بعد إعلان أنقرة إطلاق مليار متر مكعب من المياه إلى دجلة والفرات، وأوضح أن هذه الكمية، رغم أنها تبدو كبيرة على الورق، فإنها لا تمثل سوى نسبة محدودة جداً من حاجة العراق الفعلية، مشيراً إلى أن تركيا تستخدم الملف المائي ورقة ضغط للحصول على تنازلات سياسية واقتصادية وأمنية.

وتتهم بغداد منذ سنوات أنقرة بالتحكم في تدفق المياه عبر مشاريع السدود العملاقة التي أقامتها على مجرى نهري دجلة والفرات ضمن مشروع "غاب" التنموي، والذي أدى إلى تقليص الواردات المائية إلى العراق بنسبة تتجاوز الخمسين في المئة.

في المقابل، تؤكد تركيا أنها لا تنوي الإضرار بالعراق، وأنها تلتزم بتصريف كميات عادلة ومعقولة من المياه وفق ما يتوفر لديها من مخزون، لكنها لم توقع حتى اليوم على اتفاقية دولية ملزمة لتقاسم المياه.

أزمة مركبة: مناخ وسياسة وإدارة

تُعد أزمة المياه في العراق نموذجاً معقداً لتداخل العوامل البيئية والسياسية مع سوء الإدارة المحلية. فإلى جانب قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة التي تجاوزت خمسين درجة مئوية في بعض المناطق، تعاني البلاد من ضعف في البنية التحتية المائية وتسرب كبير في شبكات النقل والري، وتشير التقديرات الرسمية إلى أن نحو 60 في المئة من المياه المخصصة للزراعة تُهدر بسبب قدم القنوات وعدم استخدام أساليب الري الحديثة.

كما أن التوسع العمراني غير المخطط في ضواحي المدن، وازدياد الطلب على المياه المنزلية والصناعية، زادا من الضغط على الموارد المتناقصة. ويرى خبراء أن غياب سياسة وطنية مائية موحدة، وعدم تفعيل الاتفاقيات الدولية مع دول الجوار، جعلا العراق رهينة لمواسم المطر والسياسات الخارجية.

تداعيات إنسانية واقتصادية

الأزمة المائية انعكست بشكل مباشر على حياة ملايين العراقيين، ففي محافظات مثل ذي قار والمثنى والبصرة، تقلصت الرقعة الزراعية بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والهجرة الداخلية نحو المدن.

ويقول فلاحون إنهم لم يشهدوا مواسم جفاف بهذا القسوة من قبل، وإن محاصيلهم الأساسية من القمح والشعير والتمور تراجعت إلى أدنى مستوياتها.

وفي الجنوب، بدأ بعض السكان باستخدام مياه الأنهار المالحة للشرب بعد غليها، ما تسبب في ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المعوية والجلدية، كما تزايدت ظاهرة النزوح البيئي، حيث تغادر العائلات المناطق الريفية إلى المدن الكبرى بحثاً عن مصادر مياه وخدمات فُضلى، ما يخلق ضغوطاً إضافية على البنية التحتية الحضرية.

مطالب بإستراتيجية وطنية عاجلة

دعا مرصد "العراق الأخضر" الحكومة إلى إعلان حالة طوارئ مائية واتخاذ إجراءات فورية لحماية ما تبقى من الموارد، وشدد على ضرورة إطلاق حملة وطنية لترشيد استهلاك المياه، وتطوير شبكات الري، وبناء سدود داخلية لتجميع مياه الأمطار الموسمية.

كما طالب بفتح قنوات دبلوماسية نشطة مع تركيا وإيران لوضع اتفاقيات ملزمة تضمن للعراق حصته المائية، داعياً في الوقت نفسه إلى تفعيل الدبلوماسية البيئية الإقليمية بمشاركة الأمم المتحدة.

وأكد خبراء أن الحلول لا يمكن أن تقتصر على انتظار الأمطار، بل يجب أن تشمل إصلاح السياسات الزراعية، والانتقال نحو محاصيل أقل استهلاكاً للمياه، واستثمار الطاقة الشمسية في تشغيل محطات تحلية المياه في الجنوب.

يعد العراق من أقدم مناطق الزراعة المروية في العالم، إذ نشأت حضاراته القديمة على ضفاف دجلة والفرات قبل آلاف السنين. لكن خلال العقود الأخيرة، تراجع دوره بوصفه بلد “بلاد الرافدين” بسبب مشاريع السدود في دول المنبع، وتغير المناخ العالمي، وسوء التخطيط المحلي.

تاريخياً، كانت حصة العراق من مياه نهري دجلة والفرات تزيد على 75 مليار متر مكعب سنوياً، لكنها انخفضت اليوم إلى أقل من 30 ملياراً. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن العراق قد يصبح خلال العقدين المقبلين من أكثر خمس دول مهددة بالعطش في العالم إذا لم تتخذ إجراءات جذرية.

كما يعاني العراق من تدهور بيئي واسع، إذ فقد أكثر من نصف أراضيه الزراعية الصالحة خلال السنوات العشرين الماضية بسبب التصحر، وتراجعت المسطحات المائية الداخلية مثل الأهوار إلى أقل من ربع مساحتها الأصلية، وقد صنفت منظمة اليونسكو أهوار العراق ضمن التراث العالمي المهدد بالاندثار نتيجة التغير المناخي والجفاف.

إن تحذيرات مرصد "العراق الأخضر" ليست مجرد تنبؤات بيئية، بل جرس إنذار لمستقبل بلد كان يوماً مهد الحضارة المائية الأولى في التاريخ. الجفاف الذي يضرب دجلة والفرات اليوم يكشف هشاشة المنظومة المائية والبيئية في العراق، ويفضح غياب التخطيط الاستراتيجي في مواجهة أزمة وجودية تهدد الأمن الغذائي والسكاني.

وبين انتظار المطر وضغوط السياسة، يبقى العراق في سباق مع الزمن لإنقاذ أنهاره قبل أن تتحول من شريان حياة إلى أطلال جافة، في مشهد يلخص مأساة المناخ والإهمال الإنساني في واحدة من أكثر بقاع الأرض عطشاً.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية